Site icon السعودية برس

د. ثروت إمبابي يكتب: أهمية التنوع البيولوجي الزراعي في دعم الاستدامة وتحقيق الأمن الغذائي

قال أجدادنا: “الأرض أمٌّ، ومن يهملها لا يحصد خيرها”، وهي حكمة تختصر فلسفة الزراعة منذ فجر التاريخ. فالمصري القديم كان يدرك intuitively أن التنوع في المحاصيل والحيوانات هو سر بقاء الزراعة ووفرة الغذاء. لذلك زرع القمح بجوار العدس، وربى الجاموس مع الأغنام والدواجن، وكأنه يرسم لوحة متكاملة من التنوع، تحفظ التوازن وتمنح الاستقرار. هذا الإدراك الشعبي العميق يبرهن على أن التنوع البيولوجي الزراعي ليس ترفاً، بل ضرورة لبقاء المجتمعات وضمان غذائها.

إن التنوع البيولوجي الزراعي يشكل حجر الزاوية للاستدامة، لأنه يضمن وجود بدائل متعددة تعوض النقص عند حدوث أزمات مناخية أو انتشار للآفات. فعندما تتعرض زراعة محصول بعينه للخطر، نجد أن وجود محاصيل أخرى يخفف من حدة الأزمة ويحول دون انهيار النظام الزراعي بأكمله. كما أن هذا التنوع يحافظ على الثروة الوراثية للأصناف المحلية، التي يمكن أن تصبح يوماً ما طوق نجاة أمام الجفاف أو التغيرات المناخية الحادة.

وليس الجانب البيئي وحده هو ما يجعل التنوع البيولوجي مهماً، بل إن له بعداً غذائياً وصحياً أيضاً. فالمحاصيل المتنوعة تتيح للإنسان الحصول على مكونات غذائية متكاملة من بروتينات وفيتامينات ومعادن، وهو ما يصعب تحقيقه عند الاعتماد على محصول واحد. وبذلك يصبح التنوع الزراعي وسيلة مباشرة لتحسين جودة الغذاء وصحة الإنسان. وإلى جانب ذلك، فإن وجود طيف واسع من النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة يساعد في تحقيق التوازن البيئي، حيث تعمل بعض الكائنات على مقاومة الآفات طبيعياً وتقلل من الحاجة إلى المبيدات والأسمدة الكيميائية التي ترهق الأرض والإنسان معاً.

أما من الناحية الاجتماعية والثقافية، فقد ارتبطت المجتمعات الزراعية في مصر بهذا التنوع ارتباطاً وثيقاً. ففي الريف والصعيد، كان التنوع الزراعي سبباً في نشأة أسواق محلية نابضة بالحياة، وفي الحفاظ على وصفات غذائية تراثية تعكس هوية المكان وثقافته، مثل الفول البلدي والذرة الرفيعة والبلح. ومن هنا فإن التنوع ليس مجرد بعد اقتصادي، بل هو جزء أصيل من الهوية الثقافية التي شكلت الوجدان المصري عبر العصور.

وفي ظل التحديات الراهنة من تغير مناخي وندرة موارد مائية وضغوط سكانية، يصبح الحفاظ على التنوع الزراعي أكثر إلحاحاً. فهو الضمان لتحقيق الاستدامة من خلال الاستخدام الأمثل للموارد، وهو صمام الأمان للأمن الغذائي الوطني، لأنه يتيح بدائل متعددة عند حدوث أزمات في السوق العالمية. فالعالم اليوم يشهد ما يسمى بـ “حروب الغذاء”، ولن ينجو منها إلا من امتلك تنوعاً بيولوجياً يحميه من الاعتماد على مصدر واحد أو محصول بعينه.

ومن موقعي كأكاديمي ومتابع للشأن الزراعي، أرى أن التنوع البيولوجي الزراعي يمثل صمام أمان لمستقبل مصر. فالأمن الغذائي لن يتحقق بزيادة الإنتاج فقط، بل بتنوعه وجودته واستدامته. والاعتماد على محصول واحد أو سلالة واحدة يجعلنا أسرى للهشاشة، وأي أزمة قد تضعنا في مأزق كبير. لذلك أدعو إلى تشجيع المزارعين على إعادة إحياء الأصناف المحلية بجوار الأصناف الحديثة، والعمل على إنشاء بنوك وراثية تحفظ البذور والسلالات من الاندثار، وربط السياسات الزراعية بخطط واضحة للحفاظ على هذا التنوع.

إن التنوع هو الحياة، وحينما نفقده نصبح كمن يسير على حافة الخطر. فمستقبل الاستدامة والأمن الغذائي في مصر مرهون بقدرتنا على صون هذا التنوع ورعايته، ليظل الخير متدفقاً كما أراد أجدادنا وكما تستحق أجيالنا القادمة.

Exit mobile version