Site icon السعودية برس

بعد التقنين.. زراعة القنب الهندي تزدهر في المغرب

في منطقة جبلية في المغرب تعلو فوق سطح البحر بألفي متر، يقود عزيز مخلوف مشروعاً فريداً لم يكن يضعه في الحسبان في يوم من الأيام: وحدة صناعية لتحويل نبتة القنب الهندي إلى منتجات ذات قيمة عالية وتحقيق عائدات لمئات المزارعين.

منذ دخول قانون زراعة القنب الهندي حيز التنفيذ في المغرب عام 2022، تعيش مناطق الشمال، خصوصاً الحسيمة والشاون وتاونات، على وقع تحولات اقتصادية واجتماعية لافتة. فالقانون، الذي يستهدف الاستعمالات الطبية والصناعية، سمح بإنشاء أولى التعاونيات الفلاحية المرخصة، وفتح الباب أمام انضمام مئات المزارعين إلى سوق منظمة، بعد عقود من النشاط غير القانوني.

يرأس مخلوف، البالغ من العمر 41 سنة، “بيوكنات” (Biocannat) وهي تعاونية في المملكة تم الترخيص لها لممارسة عدة أنشطة مرتبطة بالقنب الهندي بشكل قانوني، تعكس التعاونية جانباً من تجربة المغرب في تقنين هذه الزراعة: قانون صارم، وإنتاج تحت المراقبة، وصعود صناعة جديدة مرتبطة بالدواء ومواد التجميل والمكملات الغذائية.

المغرب يُعتبر أول بلد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يختار تقنين زراعة “الكيف”، كما يُسمى محلياً، ويبلغ هذا العام عدد المزارعين الحاصلين على ترخيص لمزاولة هذا النشاط من الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي أكثر من 5 آلاف.

من السيارات إلى صناعة القنب الهندي

تعود هذه الزراعة في المملكة إلى قرون مضت، إذ ارتبطت في بداياتها بالاستخدامات التقليدية في الحرف اليدوية والتداوي الشعبي، قبل أن تتوسع بشكل كبير خلال القرن العشرين، خصوصاً في مناطق الريف الشمالي ذات المناخ الملائم لهذه النبتة. ومع غياب إطار قانوني ينظم النشاط، تحوّل القنب الهندي إلى أحد أعمدة الاقتصاد غير المهيكل، مع ما صاحب ذلك من شبكات تهريب نحو الأسواق الأوروبية.

“أنا ابن مزارع سابق للقنب الهندي، وعندما قررت السلطات تقنين هذه الزراعة اخترت هذه الفرصة للمساهمة في تنمية منطقتي”، يقول مخلوف في حديث لـ”الشرق” بمنطقة باب برد الجبلية، البعيدة بنحو 300 كيلومتر شمال العاصمة الرباط.

كان مخلوف يشق مساراً مهنياً مختلفاً، فقد درس الاقتصاد في الجامعة، واشتغل في صناعة السيارات لمدة 13 سنة، وقطاع الصناعة الغذائية لمدة أربع سنوات. لكن عندما رأى فرصة التقنين ترك المدينة وعاد نحو مسقط الرأس ليحقق حلم أبيه ومزارعي قريته المهمشة.

تتعامل تعاونية “بيوكنات” حالياً مع 200 مزارع بعقد موقّع في بداية الموسم الفلاحي لشراء المحصول كاملاً، “ومع اقتناع المزارعين بجدوى التحول إلى الزراعة القانونية ارتفع إنتاج التعاونية إلى 200 طن العام الماضي”، بحسب مخلوف.

في تجربة تقنين القنب الهندي، يتعامل المغرب مع إرثٍ اجتماعي-اقتصادي معقّد بهدف تحويله تدريجياً إلى منظومة قانونية موجّهة للاستعمالات الطبية والصيدلانية والصناعية. فقد كان جوهر الفكرة هو  نقل النشاط من “اقتصاد ظلّ” عالي المخاطر إلى سلاسل قيمة رسمية تُوفّر دخلاً كريماً للفلاحين، وتضمن تتبّعاً صارماً للجودة والمصدر، وتفتح الباب أمام تصنيع محلي ذي قيمة مضافة.

نجحت تعاونية “بيوكنات” العام الماضي في تحقيق أول صادرات “الحشيش المغربي القانوني” بنحو 350 كيلوغراماً لتجمع إيرادات تقارب 3 ملايين درهم (333 ألف دولار). وخلال النصف الأول من العام الجاري باعت التعاونية الصناعية 20 ألف منتج للسوق المحلية والخارجية مقابل مليوني درهم.

“هذه نبتة مذهلة، إذ يُمكن أن نحولها إلى أكثر من 200 منتج، من الأدوية إلى المكملات الغذائية والزيوت ومواد البناء والألياف والمنسوجات والبلاستيك، يمكن استعمال كل مكونات النبتة وتحويلها لمنتج ذي قيمة مضافة”، بحسب مخلوف الذي راكم تجربة في هذا المجال الجديد عليه عن طريق التكوين الذاتي والاستفادة من الخبرة التقليدية لوالده.

5000 مزارع قانوني للقنب الهندي

مع دخول قانون الزراعة حيز التنفيذ، لم يكن من السهل إقناع المزارعين بجدوى الممارسة في إطار قانوني، فقد كثفت السلطات من الحوارات المباشرة مع أبناء المناطق المسموح فيها بهذه الزراعة. وكان الهاجس الأول هو الانخراط في تعاونيات وطلب التراخيص المطلوب.

“يتيح المغرب ممارسة تسعة أنشطة مرتبطة بزراعة القنب الهندي، بدءاً من استيراد البذور حتى تسويق المنتجات، بآلية مقننة وهذه هي خصوصية المغرب في هذا المجال، ويتم الاعتماد على طائرات الدرون لمراقبة الحقول وشرائح ذكية لتتبع نقل المحاصيل”، بحسب محمد الكروج، المدير العام للوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي خلال لقاء صحفي عقده الشهر الماضي بمدينة طنجة، شمال البلاد، مع ممثلي الصحافة الأجنبية في المملكة.

يفرض القانون على المزارعين التكتل في تعاونيات وتوقيع عقد بيع مع شركات مرخصة. وتشير الأرقام الرسمية إلى أن خمسة آلاف مزارع انضموا إلى قطاع القنب الهندي المقنن هذا العام مقابل 430 مزارعاً فقط في 2023.

اقرأ أيضاً: كيف غير القنب الهندي حياة آلاف المزارعين في المغرب؟

رغم صرامة القانون، فإن التأثير الإيجابي لتقنين الزراعة بشكل صارم يظهر على حياة المزارعين، فهم يزرعون اليوم أمام أعين السلطات عكس ما كان في السابق حين كانوا يضطرون للزراعة ليلاً والابتعاد عن الأنظار نهاراً والعيش على وقع الخوف من البلاغات الكيدية بسبب العلاقات المتوترة مع شبكات غير قانونية من مشتري القنب الهندي.

جمال الشطون هو واحد من أبناء المنطقة الذين انخرطوا في الزراعة القانونية، وبادر إلى تأسيس تعاونية “البديل الأصيل” بمدينة الشاون. قال في حديث لـ”الشرق”: “الخوف كان سيد الموقف قبل التقنين، كنا لا نملك ضمانات أننا سنحصد وكنا نعيش في سراح مؤقت، الآن كل شيء مضمون نزرع القنب الهندي كالقمح، ولا نخاف من السلطات ما دام كل شيء قانونياً”.

“بعيداً عن مردودية هذه الزراعة، فإن أهم شيء أننا نعيش بكرامة وبدون خوف”، وهو يمشي بحذر وسط حقله المزروع بالنبتة ويترقب أن يكون الحصاد هذا العام أفضل وأكبر.

قطاع اقتصادي بـ6 مليارات دولار

بلغ إنتاج المغرب من القنب الهندي القانوني، في العام الماضي وهو ثاني موسم لهذه الزراعة، أكثر من 4 آلاف طن، ما يُمثل ارتفاعاً بنحو 1280% مقارنةً بإنتاج العام السابق، وكانت المردودية بنحو طنين في الهكتار في المتوسط.

وتحاول السلطات تعظيم عائدات هذه الزراعة على الفلاحين، حيث تعمل على مواكبة وتشجيع التعاونيات والشركات على بناء مشاريعها محلياً لتشغيل المزراعين وخلق القيمة المضافة في المناطق حيث تزرع النبتة.

اقرأ أيضاً: المغرب يطمح لـ6 مليارات دولار إيرادات من القنب الهندي

ابتداءً من الشهر الجاري، سيتم الشروع في جني المحصول القانوني الثالث للقنب الهندي. وتمتد المساحة المزروعة على 5800 هكتار محددة في ثلاث مناطق في شمال المملكة. وتحتاج نبتة القنب الهندي فترة أطول من الشمس، ورياً أسبوعياً، إضافة إلى الأسمدة لتحقيق مردود جيد.

ويطمح المغرب لجعل هذه الزراعة قطاعاً اقتصادياً مدراً للدخل، فبحسب دراسة سابقة للوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي، التابعة لوزارة الداخلية، يمكن للقطاع الحديث تحقيق إيرادات تتراوح بين 4 إلى 6 مليارات دولار سنوياً من تصدير المنتجات الطبية للقنب الهندي بحلول عام 2028.

ولدعم الإنتاج المحلي، فرض المغرب العام الماضي رسوماً جمركية بنسبة 200% على استيراد منتجات القنب الهندي. وتعول المملكة على إسبانيا وهولندا وألمانيا وبريطانيا كأسواق ذات أولوية للتصدير، والبالغ حجمها الإجمالي 25 ملياراً، ليرتفع هذا الرقم إلى 42 ملياراً عند إضافة فرنسا وإيطاليا لاحقاً. وتستهدف المملكة حيازة حصة ما بين 10% إلى 15% من هذه الأسواق.

وإذا كان التقنين في عدد من الدول العالم أتاح الاستعمال الترفيهي للقنب الهندي، فإن المغرب لم يدرج هذا الأمر ضمن القانون، حيث جعل التقنين محصوراً في الاستعمالات الطبية والصناعية. وقد بدأت تتعالى بعض الأصوات المطالبة بفتح نقاش حول هذا الحانب، لكن سيكون الأمر صعب المنال لأن ذلك يتطلب إعادة تعديل القانون، رغم أن تدخين “الكيف” كان سائداً لقرون بين سكان الجبال المعروفين بزراعة هذه النبتة.

رغم ازدهار هذه الزراعة في المغرب، إلا أن التحديات لا تزال حاضرة بقوة، أولها إغراء السوق غير القانونية التي قد تواصل جذب جزء من الإنتاج إذا لم تُحقّق القنوات القانونية سعراً مجزياً وسداداً سريعاً للمزارعين. كما تتطلب هذه الصناعة الحديثة تشجيع البحث والتطوير لإنتاج مستحضرات عالية القيمة وتطوير منصات تصدير موثوقة نحو أسواق ذات طلب متنامٍ مع حواجز تنظيمية عالية.

Exit mobile version