قطع الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطوات سريعة منذ بدء ولايته الثانية ليؤكد، بقرارات منفردة، هيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي. وخلال ساعات قليلة، سيرى العالم مؤشرات على ما إذا كانت أي مؤسسة في البلاد مستعدة لكبح جماحه.
في مواجهة قانونية حاسمة، تنظر المحكمة العليا في دفوع القائلين إن ترمب تجاوز سلطاته الدستورية في كثير من الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها على الواردات من مختلف أنحاء العالم.
معركة الرسوم الجمركية
قرار المحكمة سيحدد مصير رسوم يدفعها المستوردون الأميركيون بعشرات مليارات الدولارات شهرياً، وكذلك قدرة ترمب على إعادة تشكيل تدفقات التجارة ورأس المال العالمية.
ويقول خبراء القانون إن التداعيات تتجاوز الأبعاد الاقتصادية، وتمتد إلى نطاق سلطات الرئاسة الأميركية.
اقرأ أيضاً: محكمة الاستئناف الأميركية: رسوم ترمب الجمركية العالمية غير قانونية
انتصار ترمب يعني حصوله فعلياً على صلاحيات غير محدودة لاستدعاء حالات الطوارئ وفرض ضرائب على الواردات والتدخل في الاقتصاد، وفقاً لما يقوله كل من الرئيس ومعارضوه. أما خسارته فستُقوض سلاحه الاقتصادي المفضل الذي تسبب في اضطراب الأسواق المالية هذا العام. ومن غير المتوقع صدور الحكم قبل أسابيع أو حتى أشهر، ما يعني احتمال استمرار حالة عدم اليقين حتى عطلة نهاية العام الجاري.
في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي أمس، وصف ترمب القضية بأنها “مسألة حياة أو موت لبلدنا”، محذراً من أن صدور حكم ضده سيجعل الولايات المتحدة “عاجزة فعلياً عن الدفاع عن نفسها”. يرى الرئيس أن تقييد سلطاته في فرض الرسوم الجمركية سيقوض الاتفاقات التي أبرمها مع شركاء تجاريين بهدف إعادة التوازن للعلاقات التجارية وتعزيز قطاع الصناعة الأميركي.
وقال في مقابلة مع شبكة “سي بي إس” بُثت الأحد الماضي، رداً على سؤال عن تداعيات خسارته المحتملة: “اقتصادنا سيتجه إلى الجحيم”.
خسارة دونالد ترمب
من جانبها، قدرت أسواق المراهنات الأسبوع الحالي احتمال خسارة ترمب للقضية بنحو 60%. في “وول ستريت”، بدأت شركات شراء حقوق المطالبات المحتملة باسترداد الرسوم الجمركية، في رهان على أن خسارة ترمب ستعيد مليارات الدولارات من الرسوم إلى الشركات الأميركية.
اقرأ أيضاً: رسوم ترمب تمحو 2.5 تريليون دولار من سوق الأسهم الأميركية
القضية المحورية أمام المحكمة العليا تتعلق بما إذا كانت ستؤيد قرارات المحاكم الأدنى التي رأت أن قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية (IEEPA) لا يمنح الرئيس سلطة فرض الرسوم الجمركية. وحال تأييد هذا التفسير، فسيُعتبر معظم ما فرضه ترمب من رسوم على الواردات غير قانوني.
في سلسلة أوامر تنفيذية، وضمن إعلانه في حديقة البيت الأبيض في الثاني من أبريل الماضي، استند ترمب إلى القانون الصادر عام 1977 لفرض رسوم على الواردات من معظم دول العالم. في حالة الصين –وكذلك كندا والمكسيك– برر الخطوة بأزمة الفنتانيل، أما بالنسبة إلى دول أخرى فاستند إلى العجز المزمن في الميزان التجاري الأميركي، وهو ما يرى كثير من خبراء الاقتصاد أنه لا يرقى إلى مستوى الطوارئ.
كما استخدم ترمب القانون ذاته لفرض رسوم عقابية على الواردات من البرازيل بسبب محاكمة الرئيس السابق جايير بولسونارو بتهمة التخطيط لانقلاب، وعلى البضائع الهندية بسبب مشتريات البلاد من النفط الروسي. وهدد كندا مؤخراً برسوم جمركية إضافية بموجب القانون نفسه بسبب إعلان تلفزيوني يتضمن خطاباً ألقاه رونالد ريغان عام 1987 ينتقد فيه استخدام الرسوم الجمركية.
سلطات بلا قيود
تقول الشركات الصغيرة والولايات التي رفعت القضايا الثلاث التي تنظرها المحكمة بشكل جماعي، إن القانون استُخدم بشكل صحيح في السابق لفرض عقوبات مالية، لكنه لا يمنح الرئيس سلطة فرض الرسوم الجمركية، إذ لم يسبق لأي رئيس أن فعل ذلك.
الرسوم الجمركية تجر ترمب إلى ساحات القضاء.. تفاصيل أكثر
يشير محامو المعارضين إلى أن القانون صيغ في حقبة “ووترغيت” ضمن موجة تشريعات هدفت إلى تقييد السلطات الرئاسية، وأن غياب كلمة “الرسوم الجمركية” من نصه مقصود، إذ أراد الكونغرس الأميركي بذلك أن يحتفظ لنفسه بالسلطة الدستورية لجباية الضرائب وتنظيم التجارة الخارجية.
رغم أن صدور الحكم النهائي سيستغرق وقتاً، إلا أن المرافعات الشفهية قد تُظهر مؤشرات على توجه القضاة.
يرى خبراء أن أي حكم ضد ترمب لن يكون سوى عائق مؤقت لحروبه التجارية، لأن هناك صلاحيات أخرى ذات أساس قانوني أقوى يمكنه استخدامها، كما فعل خلال ولايته الأولى حين فرض رسوماً جمركية على بضائع محددة مثل السيارات والصلب.
غير أن حماس ترمب لاستخدام قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة كركيزة لبرنامج ولايته الثانية ينبع من اعتقاده بأنه يمنحه سلطة مطلقة، في حين أن القوانين الأخرى تتطلب تحقيقات رسمية تستغرق مدة تصل إلى 9 أشهر لإقرار الرسوم.
أميركا تحصد 566 مليون دولار يومياً من الرسوم
في الوقت ذاته، قد يؤدي إلغاء معظم ضرائب ترمب على الواردات إلى اضطرابات واسعة.
بحسب تحليل أجرته “بلومبرغ إيكونوميكس”، تجمع الحكومة الأميركية حالياً نحو 556 مليون دولار يومياً من الرسوم الجمركية المفروضة بموجب الصلاحيات الاقتصادية الطارئة، أي ما يعادل 75% من إجمالي الزيادة في الإيرادات الجمركية العام الحالي. من المتوقع أن يتجاوز مجموع هذه الرسوم 140 مليار دولار في 2025، حتى بعد إعلان ترمب الأسبوع الماضي عن خفض بمقدار النصف لرسوم الفنتانيل البالغة 20% على البضائع الصينية.
طالع المزيد: لماذا يطبق ترمب كل هذه الرسوم؟ وكيف يتم احتسابها؟
في حال ألغت المحكمة العليا جميع الرسوم الجمركية المفروضة بموجب القانون، فسيهبط متوسط معدل الرسوم الجمركية الفعلية من 15.9% حالياً إلى 6.5%، ما سيقلل الضغط على نمو الاقتصاد الأميركي إلى النصف تقريباً، رغم أنه سيبقى أعلى بكثير من مستواه البالغ 2.3% وقت عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي.
يبقى السؤال الرئيسي: هل سيتعين على الحكومة الأميركية، في حال خسارة ترمب القضية، أن تعيد الرسوم الجمركية للشركات؟ فمثل هذا القرار سيحرم الخزانة من إيرادات ضخمة ويرفع عجز الموازنة.
يرى كينت سميتيرز، المسؤول السابق في وزارة الخزانة بعهد الرئيس جورج بوش الإبن والخبير في “نموذج بن وارتون للميزانية”، أن استرداد الأموال قد يشكل في الأمد القصير دفعة إيجابية للاقتصاد، لأنه سيعزز أرباح الشركات ويوفر سيولة جديدة للاستثمار.
لكن ذلك يعتمد على قدرة الجهاز الإداري الفيدرالي على التعامل مع هذا الكم من الطلبات. قال جيس نيپستاد، الذي يدير شركة “بلانتاري ديزاين” (Planetary Design) المتخصصة في أدوات القهوة ومقرها مونتانا، إن شركته دفعت بالخطأ 200 ألف دولار إضافية على شحنة مستوردة. ورغم إثبات الخطأ لإدارة الجمارك وحماية الحدود، أبلغته الوكالة بأن استرداد المبلغ سيستغرق 300 يوم.
أوضح نيپستاد خلال مكالمة جماعية رتبها الأسبوع الماضي تحالف من الشركات الصغيرة المعارضة للرسوم الجمركية: “إذا تم إلغاء كل هذا، فكم سيستغرق استرداد أموالنا جميعاً؟ سيكون أمراً جنونياً”.
“من يملك السلطة؟”
تتجاوز التبعات التأثير على الأسواق المالية وغيرها، إلى “الخطوط الواضحة” في الدستور الأميركي التي تفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفقاً لمذكرة قدمها للمحكمة في وقت سابق من العام الحالي فريق من خبراء القانون الدستوري من الحزبين، بينهم قضاة فيدراليون سابقون وثلاثة أعضاء سابقين في مجلس الشيوخ.
جاء في المذكرة: “هذا النزاع لا يتعلق بحكمة فرض الرسوم الجمركية أو بسياسات التجارة، بل بمن يملك سلطة فرض الضرائب على الشعب الأميركي”.
اقرأ المزيد: رئيسة صندوق النقد: أجندة ترمب الجمركية “خطر كبير”
قال مايكل ماكونيل، أستاذ القانون الدستوري المنتمي للتيار المحافظ في جامعة ستانفورد، الذي شارك في إعداد المذكرة وانضم لاحقاً إلى الفريق القانوني لأحد المدعين، إن القضية المطروحة أمام المحكمة العليا تُعد الأهم منذ 1952 فيما يتعلق بصلاحيات الرئيس الاقتصادية. في ذلك العام، أوقف القضاة محاولة إدارة الرئيس الراحل هاري ترومان لتأميم شركة صلب بذريعة الأمن القومي والحرب الكورية.
لكن مسؤولي إدارة ترمب يرون أن أي حكم ضده سيقيد قدرته على إدارة السياسة الخارجية، مؤكدين أن لا شيء يجب أن يحد من سلطة الرئيس في إعلان حالة طوارئ، سواء كانت تتعلق بأزمة الفنتانيل أو بالعجز التجاري.
في مذكرة قدمها الأسبوع الماضي نيابة عن ترمب، كتب المحامي العام الأميركي دي جون ساور أن قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة يمنح الرئيس الحق في الرد على أي تهديد يراه، طالما أعلن حالة الطوارئ أولاً، ولا يفرض عليه القانون أي قيود في تعريف ماهية “الطوارئ”.
وأضاف أن المحاكم لا تملك صلاحية مراجعة هذه القرارات لأن “القضاة يفتقرون إلى الخبرة المؤسسية لتحديد متى تكون التهديدات الخارجية غير اعتيادية أو استثنائية”.
ويقول المدعون إن تبني المحكمة العليا لهذا التفسير سيمنح ترمب ومن سيأتي بعده صلاحيات شبه مطلقة لتفعيل أحكام الطوارئ.

