Site icon السعودية برس

“أداة مكافحة الإكراه”.. سلاح ردع في ترسانة أوروبا التجارية

تبنّى الاتحاد الأوروبي في عام 2023 “أداة مكافحة الإكراه” لحماية سيادته الاقتصادية من الابتزاز التجاري والسياسي، وقد عاد الحديث عن هذه الأداة إلى الواجهة مع تصاعد التوترات التجارية بين بروكسل وبكين.

الأسبوع الماضي، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي لتفعيلها ضد الصين، على خلفية القيود التي فرضتها على صادرات المعادن الحيوية التي تعتمد عليها الصناعات الأوروبية، في وقت تجهّز المفوضية الأوروبية خيارات تجارية للرد، وقالت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين إن جميع الخيارات مطروحة. 

في هذا التقرير، نستعرض الخلفية التي أدت إلى إنشاء “أداة مكافحة الإكراه”، وشروط تفعيلها، والدول المستهدفة بها، إضافة إلى سوابق استخدامها، والتداعيات الاقتصادية والسياسية المحتملة لها.

ما هي أداة مكافحة الإكراه وكيف نشأت؟

اعتمد الاتحاد الأوروبي في عام 2023 ما يُعرف بـ”أداة مكافحة الإكراه”، وهي آلية قانونية وتجارية، تتضمن تدابير مثل فرض رسوم جمركية أو قيود تجارية، تمنح الاتحاد صلاحية الرد على الضغوط الاقتصادية الأجنبية التي تستهدف إحدى دوله.

وتهدف الأداة إلى حماية السيادة الاقتصادية للتكتّل، وردع أي محاولات خارجية لاستخدام التجارة أو الاستثمار كوسيلة ضغط سياسي.

اقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي والصين يناقشان تسوية خلاف المعادن النادرة

كانت الأزمة التي واجهتها ليتوانيا مع الصين في عام 2021 الحافز المباشر لتسريع تبنّي الأداة. ففي تلك السنة، فرضت بكين قيوداً غير رسمية على الصادرات والواردات الليتوانية، بل وعلى الشركات الأوروبية التي تتعامل مع فيلنيوس، وذلك بعد سماح الأخيرة بفتح مكتب تمثيلي لتايوان يحمل اسمها الرسمي.

ما هي شروط تفعيل أداة مكافحة الإكراه؟

تُفعَّل أداة مكافحة الإكراه الأوروبية (Anti-Coercion Instrument – ACI) فقط في الحالات التي يتبيّن فيها أن دولةً ثالثة استخدمت تدابير اقتصادية أو استثمارية بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي أو إحدى دوله الأعضاء لتغيير موقف سياسي أو قرار سيادي.

ويُشترط أن يكون هذا الضغط موجهاً ضد الاتحاد أو دولة عضو فيه، لا ضد شركة أو قطاع منفرد، فالغاية من الأداة هي حماية السيادة الاقتصادية للتكتّل، لا تسوية الخلافات التجارية المعتادة، وفق ما هو موضح على موقع المفوضية الأوروبية المعني بالسياسات التجارية.

وقبل اتخاذ أي تدبير، تُجري المفوضية الأوروبية تحقيقاً رسمياً لتحديد ما إذا كان الفعل المقصود يشكل “إكراهاً اقتصادياً”.

ويجب أن تُثبت الأدلة وجود علاقة مباشرة بين الإجراء الخارجي وبين سلوك الدولة المعنية، بما في ذلك مدى الضرر الواقع على الاتحاد وشدة التدبير وتأثيره السياسي والاقتصادي. وبعد اكتمال التحقيق، يُحال الملف إلى مجلس الاتحاد الأوروبي الذي يقرّ رسمياً بوجود حالة إكراه، ويجيز بدء الخطوات التالية.

طالع أيضاً: أوروبا تجهز إجراءات تجارية لمواجهة قيود الصين على المعادن النادرة

يُشترط كذلك أن تكون أي إجراءات مضادة متناسبة مع حجم الضرر، ومُنسجمة مع القواعد الدولية للتجارة، بحيث لا تتحول الأداة إلى وسيلة عقابية غير منضبطة.

ولهذا السبب تُعدّ الآلية في جوهرها أداة ردع أكثر منها أداة انتقام، بحسب موقع المفوضية، إذ تمنح الأولوية للمسار الدبلوماسي والمفاوضات المباشرة، قبل اللجوء إلى القيود التجارية أو العقوبات الاقتصادية.

وبحسب تحليل نشرته مؤسسة “نورتون روز فولبرايت” (Norton Rose Fulbright) القانونية الدولية، فإن الأداة لا تُفعل إلا عندما تُستنفد الوسائل السياسية والدبلوماسية، وتُعتبر بذلك الخيار الأخير للدفاع عن المصالح الأوروبية ضد الضغوط الاقتصادية الأجنبية.

وتضيف المؤسسة أن تصميم الأداة بهذا الشكل يعكس رغبة بروكسل في الحفاظ على توازنٍ دقيق بين حماية سيادتها الاقتصادية، وتجنّب إشعال مواجهات تجارية جديدة.

ما أبرز الدول المهددة بالآلية؟

تسعى بروكسل إلى إبقاء أداتها لمكافحة الإكراه كإشارة ردع عالمية أكثر من كونها وسيلة تنفيذية، إذ ترى المفوضية أن استخدامها المتكرر خارج الحالات القصوى سيضعف قوتها كأداة دفاع عن السيادة الاقتصادية. 

وتُعتبر الصين أبرز دولة مهدَّدة، خصوصاً بعد فرضها قيوداً على تصدير المعادن النادرة والمواد الحيوية لصناعات التقنية الأوروبية، مثل الغاليوم والغرمانيوم والغرافيت.

ووفق موقع المفوضية الأوروبية، فإن الاتحاد يدرس استخدام الأداة إذا ما تأكد أن بكين تستغل هذه القيود “للتأثير في خيارات سياسية أو اقتصادية سيادية داخل الاتحاد”.

أما الولايات المتحدة، فتمثل اختباراً سياسياً حساساً للأداة، إذ لا يستبعد الاتحاد الأوروبي إدراجها ضمن نطاق الاستخدام إذا لجأت واشنطن إلى فرض رسوم جمركية كوسبلة ضغط سياسي.

وتشير “رويترز” إلى أن التفكير في استخدام الأداة ضد الولايات المتحدة يمكن اعتباره بمثابة “الخيار النووي” بالنسبة لبروكسل، لما قد يترتب عليه من انقسام اقتصادي داخل المعسكر الغربي، في وقت يشهد  العالم توتراً جيوسياسياً متصاعداً.

اقرأ المزيد: فرنسا تطالب الاتحاد الأوروبي بتفعيل أداة مكافحة الإكراه ضد رسوم ترمب.. فما هي؟

وإلى جانب الصين والولايات المتحدة، يؤكد تحليل “مركز الدراسات الأوروبية” (CEPS) أن نطاق الأداة قد يشمل دولاً أخرى تمتلك نفوذاً اقتصادياً على قطاعات حيوية أوروبية، إذ جاء فيه: “إلى جانب القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة، يمكن أن تشمل الأداة دولاً تملك نفوذاً على الاتحاد الأوروبي في قطاعات اقتصادية معينة مثل الهند وروسيا وتركيا”.

ما سوابق استخدامها؟

حتى الآن لم تُفعَّل أداة مكافحة الإكراه الأوروبية فعلياً منذ دخولها حيز التنفيذ في ديسمبر 2023، بل اكتفت بروكسل بالتلويح باستخدام الأداة من دون تفعيلها، سواء في مواجهة التهديدات الأميركية بفرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية أو في ظل القيود الصينية على المعادن النادرة التي أثارت مخاوف من استخدامها كوسيلة ضغط استراتيجي.

ما العواقب التي قد تنتج عن تفعيل الأداة؟

تشير تحليلات موقع “ذا تريد براكتيشنر” (The Trade Practitioner)، وهو منصة قانونية متخصصة بالتجارة الدولية، إلى أن تفعيل أداة مكافحة الإكراه الأوروبية قد يكون له كلفة اقتصادية ملموسة على العلاقات التجارية والمالية للاتحاد.

ويحذر الموقع من أن أي تدابير رد مضادة، مثل فرض قيود أو رسوم انتقامية، قد تؤدي إلى اضطراب في سلاسل الإمداد وارتفاع كلفة الواردات الأوروبية، خصوصاً في القطاعات التي تعتمد على مواد أولية أو مكونات مصدرها الدول المستهدفة بالإجراء. 

أما على الصعيد السياسي، فيشير تقرير “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” (ECFR) إلى أن الاستخدام المفرط أو غير المتزن للأداة قد يُضعف صورة الاتحاد الأوروبي كمدافع عن النظام التجاري متعدد الأطراف.

وينبه التقرير إلى أن اللجوء أحادي الجانب للأداة يمكن أن يُفسر على أنه تسييس للتجارة الأوروبية وتحويلها إلى أداة نفوذ جيوسياسي، ما قد يُثير ردود فعل سلبية لدى الشركاء الاستراتيجيين ويقوّض جهود بروكسل لبناء تحالفات اقتصادية قائمة على الشراكة لا على المواجهة.

رئيسة المفوضية الأوروبية تبحث سبل الرد على تهديد الصين بالمعادن النادرة… التفاصيل هنا

قانونياً، يوضح موقع المفوضية الأوروبية في صفحة الأسئلة والأجوبة الخاصة بالأداة، أن أي إجراءات ردّ يجب أن تراعي مصلحة الاتحاد وسياساته العامة.

ويؤكد النص أن الأداة ليست مصمّمة للانتقام التجاري، بل لضمان قدرة الاتحاد ودوله الأعضاء على اتخاذ قرارات سيادية مشروعة بعيداً عن الضغوط الاقتصادية.

ويُبرز هذا الإطار القانوني أن استخدام الأداة يخضع لضوابط دقيقة تهدف إلى تجنب الأضرار غير المقصودة على التجارة والاستثمار الأوروبيين، ما يجعلها آلية وقائية أكثر منها هجومية في السياسة التجارية للاتحاد.

هل تكون الأداة السلاح التجاري الأقوى في يد أوروبا مستقبلاً؟

لا يرجّح أن تتحوّل أداة مكافحة الإكراه إلى السلاح التجاري الأقوى في يد الاتحاد الأوروبي، لكنها قد تصبح أداة ردع مؤثرة ضمن ترسانة سياسات بروكسل.

فقد أوضحت المفوضية الأوروبية أن “الهدف الرئيسي من الأداة هو الردع، وبالتالي ستكون أكثر نجاحاً إذا لم تكن هناك حاجة لاستخدامها”، ما يعني أن فعاليتها لا تُقاس بمدى تفعيلها، بل بقدرتها على منع التصعيد من الأساس.

قد يهمك: قيود الصين على المعادن النادرة توحّد الحلفاء خلف ترمب

كما أشارت المفوضية الأوروبية إلى أن الأداة “جزء من مجموعة ضمن أدوات الاتحاد لتعزيز استقلاليته الاستراتيجية”، إلى جانب أدوات أخرى مثل فحص الاستثمارات الأجنبية وضوابط الصادرات. لذا، فالأداة ليست السلاح الأوحد، لكنها أحد أبرز رموز التحول في السياسة التجارية للاتحاد نحو مزيد من الحزم والاستقلالية.

وفي السياق نفسه، يرى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن على الاتحاد “بناء هياكل أكثر نشاطاً وتنسيقاً سياسياً للعمل” في مواجهة قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، بما يعزز فعالية هذه الأداة كوسيلة ردع منسقة لا كسلاح تجاري هجومي.

Exit mobile version